18 - 07 - 2024

في أزمة حزب الوفد | فرصتنا الذهبية لاسترداد السياسة التي صودرت

في أزمة حزب الوفد | فرصتنا الذهبية لاسترداد السياسة التي صودرت

لا تنفصل الأزمة الأخيرة التي تعصف بحزب الوفد، عما آل إليه الوضع السياسي العام في مصر منذ مصادرة العمل السياسي وتأميمه في أعقاب وصول الضباط الأحرار إلى السلطة بعد انقلاب 23 يوليو 1952 وسلسلة القرارات التي اتخذها مجلس قيادة الثورة وفي مقدمتها قرار حل الأحزاب والتنظيمات السياسية، في عام 1953، التي اتهمها الضباط بإفساد الحياة السياسية. ووضع قادة مصر الجدد هدف "إقامة حياة نيابية سليمة" في ذيل الأهداف الستة التي أعلنوها أهدافاً أو مبادئ ما بات يطلق عليه لاحقا "الثورة". لا ينفصل ما تم تسريبه عن مخالفات وجرائم متورط فيها قيادات في حزب الوفد الذي بات من أحزاب الموالاة عما أصبحت عليه السياسة بشكل عام في مخيلة وتصور عموم المصريين، إذ غدت السياسة مرادفاً لكل الممارسات الفاسدة، وأصبحت السياسة ملازمة للفساد وغدا الفساد عنواناً للسياسة في زمن ابتذل فيه مفهوم المصلحة وجرى فيه التمييز بين أحزاب للموالاة، مرضي عنها ومغفور لقادتها ما تقدم لهم من ذنوب وما تأخر، وأخرى معارضة يجري ملاحقة قادتها وأعضائها والتضييق عليهم. 

راجعت أعداداً من صحيفة الوفد في عام 1984، وهو الإصدار الأول لجريدة الحزب بعد سنوات من عودته للحلبة السياسية بحكم من المحكمة في عام 1978، وليس بقرار من لجنة شؤون الأحزاب التي تمنح رخصة الحزب لمن تشاء وتحجبها عمن تشاء، فتأكد لي أننا أمام جريدة معارضة تخوض في ملفات شائكة وتقدم لجمهور القراء معلومات ومقالات لن يقرأها في الصحف القومية، وتبين لي من متابعة نشاط الحزب على صفحات الجريدة أننا أمام حزب حي يعقد مؤتمرات جماهيرية حاشدة في مدن مصر وقراها ونجوعها في محافظات الشرقية والبحيرة والقليوبية والدقهلية وفي محافظات الصعيد، مستنداً إلى قاعدة اجتماعية واسعة من العائلات الوفدية، التي حافظت على استمرارية الحزب رغم قرار حل الأحزاب ومصادرة أصولها وسيطرة التنظيم السياسي الواحد. وبفضل هذه العائلات تحولت كل مناسبة اجتماعية، وخصوصا سرادقات العزاء إلى اجتماع للهيئة الوفدية العليا، وبفضلها تمكن الحزب من بناء هياكله وأماناته في ربوع مصر فور انتزاعه حكما قضائيا تاريخيا بحقه في التنظيم وممارسة العمل السياسي.

لم يكن حزب الوفد القديم، قبل 23 يوليو 1952، حزباً بالمعنى المألوف للأحزاب السياسية وإنما كان إطاراً مؤسسياً للحركة الوطنية المصرية الطامحة للاستقلال والحكم الدستوري. الطموح للاستقلال جمع حزب الوفد مع أحزاب أخرى، انشقت على قيادته مثل السعديين وحزب مصر الفتاة وحزب الدستوريين الأحرار، غير أن الوفد تميز عن هذه الأحزاب بتأكيده أن الاستقلال غايته إقامة حكم دستوري ديمقراطي لإدراك قادته أن بناء مجتمع سياسي نابض وحيوي هو ركيزة أساسية للاستقلال، وأسس لمفاهيم جديدة في مدرسة الوطنية المصرية، تؤسس لفلسفة سياسية غابت عن تفكير معظم المنخرطين في نشاط هو في حقيقته نشاط "شبه سياسي". من هذه المفاهيم مفهوم "الأمة المصرية" التي صاغ لها ضميراً مؤسساً على مبدأ "الحق فوق القوة" و"الأمة فوق الحكومة" ليضع الحكومة في مكانها الصحيح كخادمة للأمة وراعية لمصالحها، لا متسلطة على الشعب. 

احتل حزب الوفد الجديد مكانه لعقود طويلة على خريطة أحزاب المعارضة المصرية، وكان من الأحزاب القليلة التي لا تخفي حقيقة أن الحزب منظمة سياسية تسعى إلى السلطة وتتنافس من أجل الوصول إليها بطريقة سلمية عبر صناديق الاقتراع، وكانت وسيلته في ذلك تواصله مع قواعده الانتخابية والجماهيرية وتطوير الحياة السياسية من خلال تطوير خطابه السياسي وأدواته الدعائية وكذلك من خلال القيام بالوظائف الأساسية للحزب السياسي فأنشأ معهدا لإعداد القادة وبناء الكوادر السياسية وطور خطاباً يجتذب الشباب في وقت كان الشباب يميلون للانخراط في العمل السياسي من خلال تنظيمات الحركة الشيوعية وجماعة الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية والتنظيمات السلفية الجهادية أو التيار الناصري والقومي العربي، أو من خلال التنظيمات السياسية للسلطة، التي ليست سوى امتداد لتجربة الحزب الواحد ممثلا في الاتحاد الاشتراكي العربي وأذرعه المتمثلة في التنظيم الطليعي ومنظمة الشباب. 

ما حدث للوفد وأوصله إلى الحال الذي نراه اليوم، هو ما حدث لكل المجال السياسي في مصر، من إخضاع لهيمنة أجهزة الأمن التي اخترقت الأحزاب السياسية لإفساد مبدأ حرية التنظيم بإفساد كوادرها وتفجيرها من الداخل عند الضرورة، وتوريط قادتها في شبكات للمصالح الخاصة والفاسدة لضرب مفهوم المصلحة العامة. وانتهت "ثورة يوليو"، بكل أسف، إلى ما سعت لمحاربته تحديداً، وكان سلاحها الأساسي للاستحواذ على السلطة وغلق المجال العام، "إفساد الحياة السياسية"، عبر تقسيم الأحزاب إلى أحزاب للموالاة وأخرى معارضة وعبر التلاعب بالانتخابات إلى حد جعل الوصول إلى المناصب السياسية مجالا لنشوء شبكات للتربح والإثراء غير المشروع وتوفير الحماية لشبكات منخرطة في أشكال مختلفة للنشاط غير المشروع، من تجارة للآثار والعملة، وغيرها من أنشطة غير مشروعة وغير أخلاقية، أقلها الرشوة.

للأسف الشديد، لم يكن حزب الوفد بالرغم من تراثه الممتد وتاريخه العريق وقواعده الاجتماعية بمنأى عن هذه الاختراقات ومحاولات الإفساد، وعلى الرغم من ذلك لا تزال هناك فرصة ليس لإنقاذ حزب الوفد فقط وإنما لإنقاذ السياسة في مصر باستعادتها وتصحيحها. لقد كان حزب الوفد رائداً حينما كان يرفع شعار الإصلاح السياسي والدستوري بما يؤسس لدولة القانون، وبدأ يفقد تفرده وتوازنه منذ تخليه عن هذا المطلب وتبني خطاب سياسي لا يتمايز عن الخطاب السياسي للأحزاب الأخرى، ويتنازل عن جزء كبير من تقاليده وخطابه بدواعي المواءمة السياسية أو بدخوله في تحالف انتخابي تكتيكي وقصير الأجل مع جماعة الإخوان المسلمين في عام 1984، وتخلى عن دفاعه المستميت عن الفصل بين الدين والسياسة وتأكيد القيم والتقاليد المدنية في الممارسة السياسية، بعدم تطويره خطاباً واضحا بخصوص الإصلاح الدستوري والموقف من المادة الثانية في الدستور. التخلي عن التقاليد والمبادئ وفقدان التمايز كان مقدمة لكل الشرور التي أصابته. 

نوبة صحيان

غير أن الأزمة الخطيرة التي تفجرت مع التسجيلات المسربة، كانت بمثابة جرس الإنذار الذي أطلق نوبة صحيان لدى قيادات وفدية استفز ضميرهم ما يحدث للحزب الذي بات على شفا الانهيار. وما ورد في رسالة أرسلها، ردا على مقال الكاتب الصحفي حمدي رزق في صحيفة "المصري اليوم" ثلاثة من زعماء الوفد المعاصرين، محمود أباظة ومنير فخري عبد النور وعمرو موسى، ما يؤكد أنه لا يزال في هذا الحزب المرتبط تاريخه بأنصع صفحات تاريخ مصر، بقايا من "ضمير الأمة" الذي يجاهد من أجل التشبث بالحياة، وتعطي هذه الرسالة إشارة واضحة لأنه لا تزال إمكانية لإصلاح ما فسد واستعادة الحزب لمكانته ودوره على خريطة الأحزاب السياسية المصرية والتأسيس لحياة سياسية نظيفة عنوانها النضال من أجل مستقبل أفضل للأجيال الشابة. وأتوقف عند فقرة في الرسالة جاء فيها ""نحن إذ نؤمن بقدرة المصريين والوفديين على إصلاح ما فسد، وتقويم ما اعوج، واسترداد ما ضاع فلن تقتصر جهودنا على إصدار البيانات بل سوف نستمر في التواصل مع أجيال الوفد جميعًا، من حملوا أعباء النضال بالأمس، ومن يحملونه اليوم، ومن يتأهبون لرفع العلم في الغد القريب حتى تتحقق آمالنا". ويبقى السؤال: كيف يمكن تحقيق هذا الوعد؟ وهل هي مهمة زعماء الوفد وحدهم؟

في مذكراته المعنونة "أيام الوفد الأخيرة"، رصد القيادي الوفدي إبراهيم طلعت، أن حماس زعماء الوفد لحركة الضباط، قوبل بفتور كان مبرراً فالحكومة التي انقلبوا عليها هي حكومة الوفد الأخيرة التي تشكلت بعد انتخابات عام 1950، وكذلك كان حماس إبراهيم طلعت الذي عمل صحفيا في جريدة المصري المؤيدة لحزب الوفد، مفهوما إذ كان على صلة وثيقة بجمال عبد الناصر، لكن الشاب السكندري الوطني الذي بدأ عمله السياسي منخرطا في حزب مصر الفتاة، كان مخلصا لفكرة الديمقراطية ونافرا من الحكم الاستبدادي والأيديولوجيات المناصرة له، ولهذا السبب تحول عن مصر الفتاة لحزب الوفد، وأنهى تعاونه القصير مع حركة الضباط لشعوره بأنها تتجه للحكم الدكتاتوري وتبتعد عن تدعيم الديمقراطية والدفاع عن الدستور، وتأكدت مخاوفه في الإجهاز على الحركة الديمقراطية المصرية في مارس 1954، والتي كانت بداية لأزمتنا السياسية والدستورية. ودعم هذا التوجه قرار حل الأحزاب واعتقال قادة الأحزاب التي يخشى معارضتها ووضعهم في السجون وتعذيبهم، وكان التعاون بين الزعماء الجدد وبعض أجنحة الإخوان المسلمين وبعض قادتهم واضحا في ثنايا الكتاب ليؤسس الاستبداد السياسي على تلك الثنائية التي لا تزال متحكمة في الحياة السياسية المصرية والتي يعززها ضعف النخب السياسية الأخرى عن بناء قوة سياسية مستقلة في الرؤية والهدف لكسر هذه الثنائية البغيضة، فهل يمكن أن تمتد نوبة صحيان زعماء الوفد لتصبح نوبة استنفار لإنقاذ الحياة السياسية المصرية المصادرة واستعادتها؟

هناك إمكانية كبيرة لذلك، خصوصاً في ظل الإدراك المتنامي لدى كثير من الشباب الذين جرى التغرير بهم وسُرقت ثورتهم مرتين، بخطورة استمرار حالة التجريف السياسي التي تعاني منها البلاد، لكن هذه الإمكانية لا تتحقق إلا من خلال ترجمة رسالة زعماء الوفد المشار إليها إلى خطة عمل لتحقيق التواصل مع الأجيال داخل الوفد وخارجه، وعلى زعماء الوفد أن يدركوا أن مصير الحزب ومستقبله مرهون بإصلاح سياسي أوسع وبأن يستعيد الحزب مكانته وعمله المؤسسي من أجل بناء كوادر سياسية وإعداد جيل جديد من القادة الشبان مؤهلين وجاهزين لتولي المسؤولية. إن المسألة لم تعد ترفاً بل ضرورة ملحة. لقد كان إبراهيم طلعت يمتلك رؤية تضع التحول السياسي الذي تشهده مصر في سياقه العالمي والإقليمي مع صعود الولايات المتحدة كوريث لبريطانيا ودافعه للتعاون مع الضباط هو تحذيرهم من المخططات والسيناريوهات الأمريكية لمصر والمنطقة، وأظن أن الاضطرابات الإقليمية المحيطة بمصر شرقاً وغرباً وجنوباً تؤكد أن السياسة لم تعد ترفاً ولا يجوز أن تظل مصادرة ومؤممة، ولم يعد الموقف يحتمل استجداء حقوق أصيلة للمواطنين من السلطة، وإنما بات الأمر يستدعي تحركاً مستقلاً للنخبة السياسية والنخب المثقفة واستنهاضاً للهمم.
---------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

في أزمة حزب الوفد | فرصتنا الذهبية لاسترداد السياسة التي صودرت